Articles


 الخطاب الرّئاسي لختم دستور 1 جوان1959

خطاب لتتويج انتصارات الأمّة أم لانتصارات رئيسها؟ 


ختم الرّئيس الحبيب بورقيبة رئيس الجمهوريّة دستور البلاد في جلسة ممتازة عقدها المجلس القومي التّأسيسي يوم 1 جوان 1959. و إثر ختم الدّستور خاطب السيّد الجلّولي فارس رئيس المجلس القومي التّأسيسي الرّئيس الحبيب بورقيبة، و كانت نسخة الدّستور مرفوعة بيده نحو الحاضرين قائلا «فخامة الرّئيس، هذا امانة الشّعب عندك، فأنت له حافظ، فاحفظه حفظك اللّه، و أقم عليه أمرك و توكّل على اللّه، إنّ اللّه يحبّ المتوكّلين». 

كان الخطاب الذّي ألقاه الرّئيس مشحنا بالرّمزيات, قيّم المعاني ولا سيّما أنّه حسب الفصل38 من الدّستور حديث الولادة، يعدّ رئيس الجمهوريّة حاميا له ساهرا على تطبيق أحكامه. فضلا عن أنّ النّظام الرّئاسي الذّي أسّس إليه الدّستور و المكانة الرّفيعة التّي كان يحملها الرّئيس الأوّل للبلاد في قلوب الكثير من أبناء شعبه على إثر الاستقلال، جعلا من خطابه وثيقة سياسيّة و دستوريّة هامّة لفهم أوضاع البلاد و الظّروف الحّافّة بنشأة هذا الدّستور. لكنّها أيضا مكّنت من إجلاء أبعاد نفسيّة مثيرة للجدل في شخص الرّئيس السياسيّ. عبّرت عن رؤى و مواقف ذاتيّة خاصّة,تمّ إقحامها في ثوب الأمّة حتّى تتبنّاها جميعا. ما يدفع بالبعض إلى التّساؤل، هل كان هدف الخطاب ليس فقط تهنئة الشّعب بدستور جديد لجمهوريّة فتيّة واعدة بل أيضا تهنئة النّفس بالانتصار على الخصوم والحشد في صفّها؟ 

يذكر المقرّبون من الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة، أنّه لم يكن يرى في نفسه رئيسا عاديّا للبلاد بل يرى أنّه مخلّصها من الحكم الملكي و أوّل رئيس تجتمع حوله الطّبقة السيّاسيّة و الشّعب. كما كان يشعر بأنّ كامل الأمّة مختزلة في ذاته، مُمثّلة فيها. فهو وهي لُحمة واحدة لا انفصال بينهما "قلّما صادف أنّ الأحداث التّى مرّت بفرد من الأمّة تصبح جزءا من تاريخها حتّى كأنّ هذا الرّجل أصبح تتجسّم فيه أمّة لأنّه عبّر بصدق و إخلاص عمّا يجيش في صدور أفرادهاو و كافح من أجلها و خدمها و كانت أطوار حياته هي أطوارها و أطوار كفاحها". و لئن يعنّ في أذهان البعض عند سماع هذا الكلام النّظرية الأوتوقراطيّة للسّيادة و اختزال إرادة الشّعب في إرادة الحاكم، فإنّ البعض الآخر يغبط هذا الشّعب على رئيس منه يشبهه كفاحا و استماتة من أجل الوطن و يشيد بشخصيّته القياديّة القويّة القادرة على التّجميع. و هو ما بيّنه بورقيبة نفسه في قوله"عندما تلقي السّلطات الفرنسيّة القبض عليّ، فيعتبر الشّعب أنّه في حالة حرب مع فرنسا... كما أنّ رجوعي من المنفى و الاضطهاد بمعنى اعتبر من طرف الشّعب أنّ ذلك انتهاء للحرب بيننا و بين فرنسا و هذا الانتهاء قد تمّ بالنّصر على الاستعمار الفرنسي".  و مازال إلى اليوم من يعتبر هذه الكلمات و أخرى أيضا وردت في الخطاب "لقد وحدّت الأمّة في الكفاح و ما بعده" و "لأوّل مرّة تكتّلت الأمّة في تاريخها عن طيب خاطر وراء رئيس لا يقيم طاعته على الجبروت و الاكراه و القسر و إنّما يرتبط معها بارتباط الحبّ و الحنان و الرّأفة" من قبيل البروباغندا و الخطاب العاطفي الملحمي مؤسّسا ل"زعيم" "مناضل" بدرجة أولى. أي أنّه فعلا "المجاهد لأكبر" لهذا الشّعب مقابل بقيّة وجوه الحركة الوطنيّة كمناضلين من درجة ثانية أو أدنى بحسب قربهم أو بعدهم الأديولوجي عن الرّئيس. و بين من ينأى عمّا سبق و يقرّ بنظرة بورقيبة الاستشرافيّة و دهائه السيّاسي المشهود ما مكّنه من قيادة الحوار التّحريري مع السّلطات الاستعماريّة و الحركة الفدائيّة لافتكاك الاستقلال رغم بساطة عتاد المقاتلين و تدهور الأوضاع الاجتماعيّة.                                                                                         

و في إشادته بالدّستور الجديد عرّج على الدّساتير السّابقة  و الجوانب التّارخيّة لها. فنفى عن الإسلام قواعد دستوريّة محكمة تضمن سلاسة في انتقال الحكم معرّجا على اشكاليّات "المبايعة" وما أحدثته من حروب الفتنة الكبرى. كما ذكر وثيقة عهد الأمان ل1857 و دستور الأمان ل1861 و اعتبرهما  لا ينمّان لإرادة الشّعب في شيء، فضلا عن ظروف السياسيّة نشأتهما المتأزّمة. "هذا الدّستور الذّي لم يقتنع به الأمير و لا طالب به الشّعب و لم يكن إلّا حادثة طارئة, بقي حبرا على ورق". كما لفت النّظر إلى الدّستور الذّي عرفته قرطاجنّة و الذّي سمح للشّعب بالمشاركة في الحكم. و استغلّ هذه المؤسّسة القديمة لتصفية حساب سياسيّ كان و لازال محلّ نقاش محتدم. و كانت قرطاجنّة تحظى بخمس أفراد على رأس السّلطة التّنفيذيّة تجنّبا للتفرّد بالحكم و "أثناء الفتنة اليوسفيّة قالوا لا نترك بورقبة وحده بل نشرك معه بن يوسف كي نتحاشى الاستبداد" غير أنّه ردّ على معارضيه و على رأسهم صالح بن يوسف"النّتيجة فوضى و أحقاد وضغائن". قال ذلك و كأنّ الأحقاد و الضّغائن لا توجد بينه وبين مخالفيه؟ كما أنّه لم يستغلّ فرصة توقيع دستور يحمي الحقوق و الحريّات حتّى يدرأ عنه أيّ إتّهام بالاستبداد فيؤكّد على التعدديّة و يسمح لخصمه بن يوسف أو غيره بالإدلاء في الحياة السيّاسيّة العامّة من دفّة المعارضة الفاعلة، بل لم يكن هناك صدى لها في الخطاب إلّا للأمّة موحّدة به و لالسّلطات الثّلاث و لالحزب الحاكم "مأموريّة هذا الشّعب لم تنته و الأساس الذّي يقوم عليه الدّستور هو ارتفاع مستوى الشّعب و استمرار ذلك الارتفاع و هي مهمّة الحكومة و مهمّة الحزب معا". كما برّر اختيار النّظام الرّئاسي دون غيره بقوله"إذا وجدتم في هذا الدّستور نفوذ الرّئيس كبيرا و قويّا فذلك لا حبّا في النّفوذ ولا رغبة في الرّئيس في لاجبروت و الصّولة... و إنّما اخترنا ذلك بعد المقايسة بين جميع الأنظمة و معرفة مافي النّظام البرلماني من خطر عشناه و رأيناه بأعيننا كالذّي آلت إليه الجمهوريّة الثّالثة و الرّابعة بفرنسا". و قد كانت الظّرفيّة السّياسيّة و الدّستوريّة جدّ خصبة لالغاء الملكيّة و تعيين بورقيبة رئيسا ثمّ تقليده واسع الصلاّحيّات. فالسّلطة الأصليّة المطلقة أي المجلس القومي التّأسيسي و الذّي كان الحبيب بورقيبة رئيسه عمل على إرساء مبادئ الجمهوريّة و تعصير الدّولة قطعا مع الموروث الملكي.                                                       


و لم يفت الرّئيس في خطابه أن يعرّج على أسباب الغاء الملكيّة و يذكّر بما اقترفته من تفقير و استبداد في حقّ الشّعب التّونسي، خاصّا بالذّكر"حسين بن عليّ" مؤسّس الدّولة الحسينيّة و التّي استمرّت إلى حين قيام الجمهوريّة ناسبا إليه المثل الشّعبيّ "من هو؟ ... قطعة حبل جاء بها الواد". فقد انقلب حسين بن عليّ على مراد الثالث آخر سلالة المراديّين بتونس بعد أن كان من حاشيته استغلالا لكره الشّعب له و عدم سدادة حكمه. فقد كان يلقّب ب"مراد بوبالة" لكثرة استعمال إلى سيفه الذّي كان يدعوه "بالة" بطشا و ظلما. و الطّريف في الأمر، أنّ الأديب و المسرحيّ التّونسي "الحبيب بولعراس" كان صديقا مقرّبا من بورقيبة قد ألّف مسرحيّة "مراد الثّالث" و دعا الرّئيس لتشريفه حضور الافتتاح، قاصدا تحذيره من عاقبة الاستبداد الوخيمة و منها انقلاب الحاشية على الحاكم متى أنسوا منه ضعفا. فماكان منه إلّا أن منع عرض المسرحيّة و أوقف كلّ إذن بنشرها. 
أمّا إذا ما أردنا الحديث عن ّدستور1959 في حدّ ذاته، فقد كان ثورة حقيقيّة في البلاد وخارجها. إذ أنهّ كرّس مبدأ الفصل بين السّلط و منح السيادة للشّعب ضمن الفصل 3 و ضمن حرمة الفرد و حريّة معتقده الفصل 5 بالإضافة إلى حريّة الفكر و التّعبير و الصّحافة الفصل8 و أقرّ مبدأ التداول السّلمي على السّلط بالفصل40"لا يجوز لرئيس الجمهوريّة أن يجدّد ترشّحه للرّئاسة أكثر من ثلاث مرّات متتالية" مع الفصل 51 المتعلّق بسدّ حالة الشّغور الكلّي أو الوقتي. و إنّ عدم تطبيق الفصلين الأخيرين مغبّة كبرى في تاريخ دستور 1959 المنقضي و حكّامه رغم تأكيد بورقيبة نفسه في الخطاب على أهميّة انتقال السّلطة.                                                                                            

و مهما يكن من أمر فإنّ دستور 1959 كان حقّا نقلة في تاريخنا السّياسي و الدّستوري و لبنة جوهريّة من بنائنا الدّيمقراطي الذّي لا زلنا نشيّده بصبر. و يبقى القانون الدّستوري عامّة و الدساتير خاصّة رغما عن هفوات الحكّام أو أخطائهم "حفظا لحقوق الأفراد داخل المجتمع و ضبطها و جعل ضمانات لتلك الحقوق." و ثانيا ل"حفظ الدّولة من الفوضى و التّلاشي".
----------
ياسمين بن خميس

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Bottom Ad [Post Page]