Articles




الحريات زمن الكورونا: بين النجاة أو الإنفلات

أعلنت منظمة الصحة العالمية يوم 11 مارس 2020 عن بلوغ فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" مستوى الجائحة، بعد ظهوره أول مرة في مدينة ووهان الصينية. و نبهت المنظمة بالمناسبة ذاتها أن جل الدول مهددة بالفيروس داعية في الآن نفسه إلى ضرورة اتخاذ خطوات عاجلة لوقف انتشار الفيروس. 


ظهور الأوبئة ليس بالأمر الغريب عن القرن الواحد و العشرين الذي عرفت خلاله البشرية خلال عقدين من الزمن، بالإضافة إلى فيروس كورونا المستجد، فيروس ايبولا الذي نشأ في دول غرب افريقيا و سبقه وباء الكوليرا. إلا أن فيروس كورونا المستجد الذي ضرب تقريبا كل أرجاء المعمورة وضع البشرية أمام اختبار طبي و علمي تتسابق فيه البحوث الطبية مع الوتيرة السريعة لانتشار الفيروس و تمظهراته المختلفة، وأثبت من جهة أخرى قصور الانسانية، رغم ما وصلت اليه من تطور، على الاستباق.إلا أن هذا الجانب الطبي و التقني الذي سلط عليه الضوء فيروس "كوفيد-19" نترك فيه المجال إلى أهل الاختصاص، لنلتفت إلى جانب اخر خلفه هذا الفيرس تمكننا معرفتنا، رغم قصورها، على سبر ملامحه و ووضعه موضع تساؤل.

 

مما لا شك فيه أن فيروس كورونا المستجد خلف أزمة عالمية اقترنت في العديد من البلدان، إن لم نقل جميعها، برفع "حالة التأهب" و إعلان حالة الطوارئ التي تشكل كابوس الحقوق و الحريات منذ الماضي القديم و هو ما يستدعي لحظة تأمل و رصدا لأهم التغييرات التي طرأت في هذا المجال. إن دراسة هذا الجانب بالتحديد الذي التفتت إليه بعض الحكومات و تجاهلته أخرى ليس نظريا بل دفعتنا إليه نظرتنا إلى التاريخ القريب جدا الذي أثبت للبشرية جمعاء أن وقت الأزمات كان دوما اللحظة التي تنقض فيها الأنظمة الفاشية و الاستبدادية على الحكم أو تكون، في أحيان أخرى، لحظة ميلاد نظام مستبد يقدم نفسه كمنقذ للشعوب و كحام للأمة على غرار النظام النازي في ألمانيا و الحركة الفاشية في إيطاليا بقيادة أبها الروحي موسوليني أو غيرها من الأنظمة في شرق أوروبا و أمريكا اللاتينية التي، و إن نجحت في تحقيق التحول الديمقراطي بداية من سبعينات القرن الماضي على غرار إسبانيا و اليونان و بولونيا وتشيكوسلوفاكيا سابقا، إلا أنه لا بد من حمل التاريخ بيد و المستقبل بيد أخرى حتى لا يعيش الحاضر حالة اغتراب بين هذا و ذاك.


تأصيلا لهذا التمشي، فإن جولتنا حول العالم أثبتت لنا  أن الحقوق و الحريات زمن الكورونا تبدو أنها في مفترق طرق و على حافة الهاوية فإما النجاة أو الإنفلات. فالعديد من الحريات، التي خيل لنا، إلى حد أشهر قليلة سابقة، أنه لا يمكن بحال أن تقتاد بالسلاسل، أصبحت موضوع  تقييد، متناسب تارة مع مع حتميات الظرفية، و مفرط فيه تارة أخرى، و أحيانا أخرى تقمع تحت طائلة مواجهة فيروس كورونا المستجد (I). ممارسات طالت حتى الدول "المصدرة" للديمقراطية" دون أن تولي أهمية في ذلك إلى الضوابط التي يفرضها القانون الدولي في مثل هذه الحالات الاستثنائية (II).


I. التقييد المشط للحريات خلال فترة الكورونا:
- حرية التعبير:
لطالما اتخذت حالة الطوارىء كمبرر للحد من حرية التعبير باسم الحفاظ على أسرار الدولة و التصدي للخيانة و دعم المجهود الحربي. و قمع الحريات، وعلى رأسها حرية التعبير، من شأنه أن يشكل عائقا أمام احتواء الوباء و تداوله في مختلف جوانبه، ليس فقط لتجاوزه، بل أيضا لمنع إعادة ظهوره في وقت أثبتت فيها البشرية، رغم ما وصلت إليه من تقدم علمي و تكنولوجي، أنها مازتلت غير قادرة على الاستباق و احتواء الأزمات. دون أن نتناسى أن اتخاذ حرية التعبير واعزا لمقاومة الوباء من شأنه أن يحول دون إقامة مسؤولية الأشخاص الذين قد يكونوا قد قصروا في التعامل مع هذه الجائحة. فإن كان التضييق من الحريات زمن الأزمات قد يبدو أمرا مألوفا في الأنظمة الاستبدادية إلا أن فيروس كورونا المستجد قد أسدل الستار على وجود مثل هذه الممارسات في دول ديمقراطية عريقة.

 ففي الولايات المتحدة الأمريكية، و في أوائل شهر أفريل الحالي، هزت الرأي العام الأمريكي عملية طرد القبطان بريت كروزر من منصبه كقائد حاملة الطائرات الأمريكية "يو اس اس ثيودور روزفلت" بعد كشفه لرسالة إلى وسائل الإعلام اعتبر فيها أن قيادة البحرية الأمريكية لم تفعل ما يكفي لوقف تفشي فيروس الكورونا على متن سفينة سجل على متنها إصابات لأعضاء القوات البحرية الأمريكية. الحكومة الأمريكية و القيادة العليا للبحرية الأمريكية اعتبرت أن ما قام به بريت كروزر غير مقبول و يمس من سمعتها في "ظرف حساس تمر به البلاد" حسب تعبير توماس مودلي، القائم بأعمال قائد البحرية الأمريكية.


صحيفة نيويورك تايمز سلطت الضوء على هذه الممارسات فقد جاء في أحد تقاريرها أن مركز لانغون الطبي التابع لجامعة نيويورك أصدر بيانا لوح فيه بطرد أي طبيب يتولى إعطاء تصريحات صحفية، و حث المستشفى في البيان ذاته على نشر "الرسائل الإيجابية و المحفزة". فمن بين ما كشفه لنا هذا الفيروس هو أن القيود المهنية و التدابير الادارية خاصة ذات الطابع التأديبي أصبحت وسيلة لتكميم أفواه الخبراء وأهل الاختصاص و منعهم من التعبير عن مخاوفهم في مواجهة فيروس مازال إلى اليوم، رغم الوتيرة السريعة للأبحاث و المقالات العلمية، يتطور و يكشف في كل حين عن تمظهرات جديدة.


من بين الاجراءات الأخرى التي اقترحتها إدارة ترامب تمثلت في طلب تقدمت به وزارة العدل الأمريكية إلى الكونغرس الأمريكي حوالي العشرين من شهر مارس الفارط من العام الحالي حتى يسمح لها بالاحتفاظ بالمظنون فيهم الى أجل غير مسمى دون محاكمة أثناء حالة الطوارئ الوطنية لتضرب بذلك عرض الحائط المواثيق و الاتفاقيات الدولية و الحق في المحاكمة خاصة و أن المحكمة الجنائية الدولية أكدت في العديد من قراراتها على وجوب اختصار ما أمكن في مدة ايقاف أو الاحتفاظ بالأشخاص.


الأمر لم يقتصر على السلطة الفدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ شرعت كل من ولاية تكساس و أوهايو في حظر جميع عمليات الإجهاض كرد على فيروس كورونا المستجد في خطوة تم تبريرها بالاستجابة الى تعليمات السلطة الفدرالية التي أمرت بوقف إجراء جميع العمليات الجراحية "غير الضرورية"، إلا أنها، في حقيقة الأمر، خطوة سياسية تندرج في إطار مجهودات الولايتين المذكورتين في العمل على تقييد التمتع بحق الاجهاض.


المنظمات الحقوقية المحلية و العالمية لم تخف قلقها إزاء الاجراءات التي شرعت في اتخاذها الولايات المتحدة الأمريكية معتبرين العديد منها مشابهة لتلك التي اتخذت إبان هجمات 11 سبتمبر 2001 و التي أدت في نهاية المطاف إلى ما يعرف بقانون باتريوت و هو تشريع قاسي سمح للحكومة الأمريكية، بالإضافة الى عدد من الاجراءات الأخرى، بجمع بيانات هواتف المواطنين في اعتداء صارخ و غير مسبوق على المعطيات الشخصية.


في شمال شرق قارة آسيا، في بلاد التنين، الصين، وتحديدا في شهر جانفي الماضي، كان الطبيب الصيني لي وين ليانغ، الذي يعمل بالمستشفى المركزي بووهان، بؤرة تفشي فيروس كورونا المستجد، أول من حذر السلطات المحلية آنذاك الى وجود فيروس غريب يؤدي إلى التهاب الجهاز التنفسي بعد ما لاحظ وجود عديد الأعراض على عدد من مرضاه لتقابله السلطات الصينية بالتهديد و تدعوه الى التوقف عن "نشر الفتنة و الذعر" ليلاقي حتفه في بداية شهر فيفري الماضي بعد إصابته بنفس الفيروس الذي كان قد حذر مرارا و تكرارا من مخاطره.


في آسيا أيضا، سنت تايلاندا قانونا يقضي بالسجن لمدة 5 سنوات ضد كل من ينشر خبرا "خاطئا و من شأنه اثارة ذعر الرأي العام". في حين منعت منعت السلطات الايرانية توزيع جميع الصحف الورقية بداعي أنها ناقلة للفيروس.


في المجر، منح رئيس الوزراء فيكتور أوربان لنفسه سلطة إصدار مراسيم لمواجهة فيروس كورونا المستجد و اتخاذ القرارات اللازمة دون حاجة في الرجوع في ذلك إلى البرلمان و ذلك لأجل غير مسمى. و من بين أول القرارات التي اتخذها كان، حسب ما اعتبرته الحكومة المجرية، "وضع ضوابط" على حرية الصحافة لمنع انتشار ما تعتبره الحكومة "معيقا للاستجابة لفيروس الكورونا".



- الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية:

لم تسلم الحياة الخاصة و المعطيات الشخصية من "فيروس الانتهاك" بل كانت بدورها من بين أبرز ضحاياه. ففي بولندا، على سبيل المثال، و في اجراء غريب  يضع الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية موضع تساؤل كبير في ظل أنظمة تصنف على أنها ديمقراطية و مطالبة أكثر من غيرها في فرض احترام حقوق الانسان، تم إطلاق تطبيقة الغرض منها مراقبة مدى احترام الحجر الصحي العام المفروض في البلاد عن طريق ارسالة صور سيلفي أكثر من مرة يوميا للسلطات المعنية حتى تتأكد من امتثال المعني بالأمر إلى التوجيهات الصحية.


في بلغاريا، تقدمت الحكومة بمشروع قانون الى البرلمان تمت المصادقة عليه بالأغلبية أسندت بمقتضاه لقوات الأمن سلطات واسعة في مجال التتبع الرقمي (le traçage numérique) وذلك عن طريق طلب تقدمه الى مشغلي الهواتف الذي يتعين عليهم مدهم بالمعلومات المطلوبة. على انه، و ان كانت قوات الأمن ممنوعة، حسب أحكام القانون، من الولوج إلى المعطيات الخاصة المضمنة بالهواتف الجوالة، الا أنه، من الجهة المقابلة، هناك غياب شبه تام لأي مراقبة قضائية على عملية التتبع الرقمي و التحديد الجغرافي للهواتف الجوالة  (la géolocalisation des téléphones). و لربما كانت الحكومة البلغارية على دراية بخطورة مثل هذه الإجراء. ففي الجلسة المخصصة للتصويت على القانون المذكور، طلب وزير العدل البلغاري عدم التقيد حرفيا باتفاقية حقوق الإنسان تجنبا للتتبعات القضائية التي قد تطاله على ضوء هذا القانون.


و لكن لا يمكن أن نمر في هذا السياق دون أن نذكر ما جاء في التصريح الخطير الذي أدلى به المستشار السياسي برونو ماكاييس، وهو وزير سابق بالحكومة البرتغالية، اعتبر فيه أن "هوس الناس بالخصوصية" و الحياة الخاصة عرقل عملية مكافحة الجائحة و أعاق امكانية الاعتماد على وسائل تكنولوجية حديثة من شأنها أن تساعد على السيطرة على الفيروس "أنا مقتنع أكثر فأكثر بأن أكبر معركة في عصرنا الحالي هي المعركة ضد دين الخصوصية" و أضاف أن ذلك "يمكن أن يقتلنا حرفيا".


- حرية الضمير و الحريات الدينية:

في إطار هذه الظرفية الاستثنائية، لم تخرج الحريات الدينية من دائرة الاستثناء، ولم تخرج بدورها، كغيرها من الحقوق التي عرفت قيودا، من دائرة النقاش بين من مرحب و بين رافض. فمنذ إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا المستجد كجائحة عالمية و تأثر أكثر من 150 دولة بالفيروس، أقدمت الدول العربية على اتخاذ حزمة من الاجراءات، و إن كانت متأخرة في عدد منها، وسط أرقام تم التشكيك فيها من قبل عدد من المنظمات الحقوقية على غرار "هيومن رايتس ووتش" التي اتهمت دولا كالعراق و إيران و مصر بالتستر على الأرقام الحقيقة، و أقرت بغلق دور العبادة تدريجيا و منع إقامة صلاة الجماعة. ورغم أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أفتى بجواز ايقاف اقامة صلاة الجماعة، إلا أن الجدل مازال قائما إلى حد اليوم بين من يرى أن هذا الإجراء هو من روح دين الإسلام الذي يدعو إلى حفظ النفس و تجنب التهلكة و بين يرى فيه ضربا للإسلام.


- الحق في الرعاية الصحية:

تعرضت الصين، بلد تفشي الفيروس،  لتنديدات عديدة و متعددة من عدد من المنظمات الحقوقية عند فرضها الحجر الصحي العام على أكثر من 60 مليون شخص. فمدينة ووهان التي تعتبر بؤرة تفشي الفيروس المذكور و التي تضم ما يقارب 12 مليون ساكن، كشفت تقارير في شأنها على مغادرة ما يقارب 5 ملايين ساكن المدينة منذ بداية الحجر و واجهوا صعوبات في الولوج إلى الخدمات الصحية الضرورية و المستشفيات للعلاج وسط مخاوف من انتقال العدوى مما أدى الى موت عدد من المرضى على غرار صبي توفي بشلل دماغي لعدم تمكنه من العناية الطبية اللازمة.  هذا الإشكال ليس حكرا على الصين، بل طرح في أغلب البلدان، و ان كان أكثر جسامة في الصين التي حاولت كبح جماح الفيروس من خلال إجراءات استبدادية لم تراعي أغلبها المعايير الدولية. 


في تونس، طرح إشكال عدم قبول عدد من المستشفيات إيواء مرضى الكورونا، رغم وجود مسالك كورونا في المستشفيات المذكورة، في خرق واضح لمقتضيات الدستور الذي يضمن الحق في الحياة و في مخالفة كذلك لأوامر السلطة المركزية. و رغم تدخل السلطات لفرض الامتثال لتعليمات وزارة الصحة إلا أن المشكل أثار استغراب رواد مواقع التواصل الاجتماعي.


كل هذه الممارسات، و التي تعمدنا تسليط الضوء عليها في إطار الدول الديمقراطية، غير مبررة حتى و ان كان الهدف وجيها و هو السهر على حماية صحة المجتمع ما دامت غير خاضعة لضوابط، أو، بصورة أدق، غير متطابقة مع ما تقتضيه القوانين الدولية في هذا الإطار.


II. ضوابط تقييد الحريات وفق قواعد القانون الدولي

فرض قيود على عدد من الحريات و الحقوق مقبول في حالات استثنائية و لكن هذه القيود تخضع لضوابط و ينبغي أن تكون مؤطرة في إطار ما يسمح به القانون والمعايير الدولية. فالحد من الحريات لا ينبغي أن يكون إلا في حالة خطر داهم يهدد الأمن القومي و كيان الأمة على وجه الاجمال، و يجب أن تكون الاجراءات التي تضيق في واحدة أو أكثر من الحقوق و الحريات، متناسبة مع ما تقتضيه خصوصيات الوضع أو الخطر. مبدأ التناسب نجد له مضربا في الدستور التونسي في الفصل 49 منه الذي أقره بصفة صريحة، و لكن نجد وطأة قدم له في المواثيق الدولية. فالعبرة في هذا الخصوص في وجود تهديد واضح و حتمي يهدد الحرمة الجسدية للمواطن و هو ما يعني إقصاء الخطر المحتمل وقد وردت مبادئ سيراكيوزا، التي اعتمدها "المجلس الاقتصادي والاجتماعي" التابع للأمم المتحدة، في هذا المعنى اذ نقرأ "يجب توجيه كل إجراء ضد خطر حقيقي و واضح و حالي أو وشيك و لا يمكن فرضه لمجرد خطر محتمل".


و لا يسعنا المرور دون الاشارة في هذا الاطار الى أن الاجراءات التي قد يترتب عنها التخلي عن حق من الحقوق في اطار الاستجابة لخطر حتمي وفق الشروط السابق بيانها يجب أن تتخذ، وفق العهد الدولي الخاص  بالحقوق المدنية والسياسية الذي يعتبر المرجع في هذا المجال، و لكن كذلك حسب التعليقات العامة ل"لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة" المتعلقة سواء بحالة الطوارئ أو كذلك بحرية التنقل، بمقتضى نص قانوني. بل و أكثر من ذلك، فان الدول مطالبة باعلام الأمين العام للأمم المتحدة بالإجراءات المتخذة و الدوافع التي تقف وراء التخلي أو التقييد من حق من الحقوق.


إلا أنه لسائل أن يتساءل: إن كان التقييد من الحريات يخضع لضوابط، فهل أن حالة الطوارئ التي تتخذ في خضامها مثل هذه الاجراءات الاستثنائية تخضع بدورها لضوابط؟


 الجواب يكون بالإيجاب.  قواعد القانون الدولي تفرض على ان اعلان حالة الطوارىء يجب أن تكون وفق إجراءات منصوص عليها بمقتضى نص قانوني سابق الوضع يحدد اطارها القانوني. إلا أن هذه النقطة بالذات أصبحت محل تسائل وسط معادلة أصبحت صعبة المراس في التوفيق بين فعالية الاجراءات ومدى قدرتها على كبح سرعة انتشار الفيروس، في غياب لقاح الى حد الان، و شرعيتها. في فرنسا، على سبيل المثال، وقع الحد من عدد من الحريات بمقتضى مرسوم حكومي صادر في 16 مارس من العام الحالي و الذي، و ان كان نص ترتيبيا و ليس تشريعيا، إلا أنه تأسس على أحكام قانون 2007 المتعلق بتهيئة النظام الصحي للتهديدات واسعة النطاق. و ان كان هذا التوجه منسجما في بدايته مع المعايير و القوانين الدولية الا ان فرنسا رأت ضرورة إصدار قانون أساسي في 23 مارس متعلق بحالة الطوارئ الصحية للاستجابة لفيروس كورونا المستجد (COVID-19)، في خطوة اعتبرها الرئيس ايمانويل ماكرون أهم خطوة في "الحرب ضد الكورونا"، لتكون بذلك حالة طوارئ تخضع لنظام خاص و موازية لحالة الطوارئ العامة المنصوص عليها بالقانون الصادر سنة 1955 و الذي اعتبرها البعض غير ملائمة للاستجابة لمثل هذه الوضعيات الصحية باعتبار أنها شرعت لمواجهة كوارث طبيعية كلاسيكية كالفيضانات و البراكين أو لفرض إجراءات استثنائية وقت الحرب.


على أنه إن كان من المسموح بمكان التقييد من بعض الحريات وفق ما تقتضيه الظرفية الاستثنائية والطارئة فإن عدد من الحريات الأخرى تخرج عن دائرة الاستثناء و تبقى في منزلة "الحقوق المقدسة" التي لا يسمح التعرض إليها تحت أي مسمى لكونها مكونة لجوهر الإنسان ذاته. فصون الإنسان في جسده و كرامته هو حق من حقوقه الأساسية الذي يترتب عن المساس به  دق طبول الحرب على الطريقة الماوية لأنه أصبح من الجلي، بمجرد حصول ذلك، أننا قد حدنا عن المسار. و على هذا الأساس، لا يمكن أن يخضع أي انسان، دون موافقة حرة و مسؤولة تنبع عن إرادة واضحة وصريحة لا يشوبها أي لبس، لتجربة طبية أو علمية فلا البحث العلمي - الذي يندرج في حد ذاته ضمن قائمة عريضة من الحريات - و لا حتى الضروريات الصحية تبرر اختبار أي نوع من الأدوية على أي إنسان كان غصبا و إكراها.

كل ما تقدم من رصد للممارسات المتخذة في زمن تمر به الانسانية بأزمة صحية قد تكون الأعنف منذ عقود، و قد يترتب عنها تغييرات دولية و اقليمية في المستقبل القريب، تدفعنا إلى القول نهاية الى أن الممارسة الديمقراطية لا يمكن أن تمتحن الا زمن الأزمات و الديمقراطيات الثابتة و التي تحترم نفسها لا تهتز بغض النظر عن الظرفيات و الدوافع و لا يمكن بحال أن تضع الصحة و الحريات جنبا إلى جنب في معادلة بالإمكان تحقيقها شريطة وجود وعي راسخ و ديمقراطية متجذرة فما اكتسب من حقوق على غرار قرون من الزمن لا يمكن بحال أن يوضع محل شك في ظرفية استثنائية، مهما ستطول، فإنها ستؤول الى الزوال لا محالة و ستنتصر البشرية كما انتصرت من قبل في معاركها الغابرة. و لكن، هل ستدفع الحقوق و الحريات ضريبة هذا النجاح؟


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Bottom Ad [Post Page]