Articles


"يا عيني نوحي ويا خلالة رني ..."
 دندنت بصوتها الشجي تلك الالحان البدوية المحببة الى قلبها وانسابت العبرات على وجنتيها المتوردتين ...تنهدت..ثم وضعت اداتها المسننة على الحصير..وتوقفت فجأة عن الغناء..دب الصمت الى المكان هنيهة..وكنت قد استسلمت الى ركبتها الرؤوم واتخذت منها متكأ..وياله من متكأ . . أشحت بنظري الى "السداية" ، سداية امي الخشبية ذات اللون الآجري العتيق..وكان كل خيط من خيوط "المنسج" قد قد بأناملها العفيفة الرقيقة الحذقة كابدع ما يكون ..وهي تعد العدة ل"عبانتها" الجديدة كأم بكر تنتظر وليدها الموعود..كان عملها متقنا الى درجة انتصبت فيها تلك الخيوط الناصعة خيوط "الڨيام" كأعمدة من سحاب تفصل عالمها السحري عن حياتها الرتيبة وشقاءها المحتوم..اه لو يعلم الكون كم من ليلة لم يغمض لها جفن وهي تضع الخيط حذو الخيط وتمرر راحتيها بكل حنو في تلك الحركة البهلوانية الرشيقة وهي تلتقط خيطها الصوفي بين السبابة والوسطى بكل تفان..اه لو يعلم الكون كم كانت امي تهوى "السداية" ! ..إذ كانت كلما أضنتها فاقتها وثقل وزرها تسارع الى منوالها قتدق "مواثيقها" وتنصب اعمدة سدايتها فتشيد عالمها السحري عالم الصوف الملون و"المرقوم" ..عالم النسيج المعتق بعبير الأراك والسواك وعود القرنفل والخزامة وبخور الحج الذي يعبق كل يوم من جمرات كانون أمي الملتهبة في ذلك اللون العجيب ..لون الحمم والسعير الذي يحاكي غضبها الدفين .. تنهدت ..فهزني دوي زفيرها بين ضلوعها فقد كنت الصق اذني بفخذها وكانى أأبى الخروج من جوفها .فأركن الى "حجرها" اتنصت واتجسس على احشاءها وهي تتغنى بأدواتها وتتغزل بأوتارها وتتناغم مع خيوطها فلكأنها باتت أقرانها أو رفاق دربها الحزين ..تناجيها وتتغنى بها تارة وطورا تبثها سخطها قتمزقها أو تبعثرها لتهجرها إلى حين .. وضعت "خلالتها " على الثرى واستسلمت إلى شرودها ..مثلها كمثل جندي خاءب يضع سلاحه يواري سوأته في معركة لا يقدر سواها على سبر اغوارها ..فهيهات لمن أراد ان يسدل الستار عن حزنها ..فقد كانت ترد بتلك الابتسامة العذبة الحيية فتراك تتساءل عن جمال ثغرها ومكمن حسنها..يخطفك منك بريق "نابها الذهبي" الذي يتوسط حبات اللؤلؤ الموشاة بشفتين مخضبتين بحمرة السواك..فلكأن حزنها قد لفها برداء من الحسن العفيف حتى باتت هالتها تبهر كل ذي لب مرهف رقيق..كيف لا وهي المسماة "حبيبة" تلك "التبرسقية " بنت ال"منشية" ذات الشعر الأسود ..أم الساعد المتين ..الحرة.."المڨدية" ..صاحبة أطول واجمل وأنعم "عبانة" في المنطقة وأحوازها ..لقد كانت نتبض بالحياة دأبها دأب الفراشة أن تراود كل قبس وتراقص كل نور ...

1 commentaire:

  1. نص رائع و صاد و حقيقي .. شكرا من القلب .. كل الروائح عادت

    RépondreSupprimer

Bottom Ad [Post Page]